الإنسان العربي و العنف

بقلم: رشيد العالم

الإنسان العربي ثائر بطبعه مجبول على التمرد والتوق إلى الحرية والإنعتاق، حتى ولو كان ذلك مقابل كسر الحواجز واقتلاع الحدود، وإضرام الحروب ، فهاهو يعود مرة أخرى ليصنع أسطورة عنف جديدة، ليأكد ذاته و وجوده و رهانه المنشود، فنراه يثور داخل وخارج القضبان، يحتج على السجن والسجان، ويثبت ولا يزال بأن لصراخه فعل الرصاص والدبابات، للذين قالوا وهم يتنادمون ويترنحون، بأن العربي المعاصر وإن طغى وفجر وفسق وكفر وتولى ثم تولى…، فسرعان ما يعود إلى رشده، والرشد هنا يعني ” الصمت، السكون، الجمود” وأثبت ولا يزال بأن نظرته الحادة، سهم حاد وسام، للذين غفلوا عنه وتجاهلوه وقالوا: ” على سمعه وبصره غشاوة سميكة وثقيلة ” وأن عالم العولمة الحديثة والتقنيات التكنولوجية الهائلة ، والآلات الذكية ….إلخ، التي تحاصر المواطن العربي المعاصر، لن تترك ثغرة، – ولو بحجم سم الخياط – للوعي العربي المسلوب حتى ينفذ منها، لينظر إلى واقعه المرير عبر ما وراء الإعلام والتقنيات الحديثة و..و..إلخ.
العنف والغضب والتمرد كانا ملازمين للإنسان، منذ أن بدأ حياته مثل سائر الحيوانات، فكان لا يجد مبرراً في مواراة سوءته بقدر ما يجد مبررات قوية، لا تعدو أن تكون العنف، فرض الذات، الحماية و الأمن، الإخضاع والسيطرة، في أكل وقضم كبد أخيه الإنسان.
فخلال المراحل التاريخية الخمس: (البدائية، العبودية، الإقطاعية، الرأسمالية، والحداثة) التي عايش فيها الإنسان العنف بمختلف أشكاله وأدواته، تطور به الحال بما توفر لديه من علوم طبيعية وإنسانية ورياضية إلى أن صار ” كائناً مفكرا” يميز بين الخير والشر ويختار ما يجب القيام به وما لا يجب، بيد أن تمرده وعصيانه واندفاعه نحو العنف، لم يحل بينه و بين ثورته على القيم الدينية والأخلاقية التي توارثها، فلا البوذية ولا البراهمية ولا الهندوسية في الشرق الأقصى استطاعت كبح جماح عنفه، ولا اليهودية والمسيحية والإسلام استطاعوا تحقيق ذلك في الشرق الأوسط، وفي غيره من بلدان العالم.
فلو استحضرنا مسحة من بحوث الدراســات الميـــثولوجــية ” علم دراسة الأساطير” أسطورة أينياس في ملحمة الإنيادة – نموذجا- لوجدنا أن ما كُتب حول هذه الأسطورة لا يعدو أن يكون دراما لعنف الآلهة، فكثير من الدراسات تخلص إلى أن الأصل في عنف الإنسان في تلك الحقبة بالذات التي كان ينسج فيها الأساطير، ترجع إلى اعتقاده بصراع الألهة، فكان يؤمن بأن العنف وسيلة للبقاء لدى الإنسان كما أنه وسيلة لاكتساب مزيد من القوة والسيطرة والإخضاع لدى الآلهة، فاحتدام العنف بين البشر تحكمه درجة الصراع بين الآلهة.
فما أرخه الإنسان، حول العنف ولا يزال، يُظهر – بجلاء – أن العنف مرتبط به، ارتباطه بالمجتمع والتاريخ، فالحصيلة التاريخية، بناءا على مختلف مراحل العنف التي مر بها الإنسان، تخلص إلى أن المجتمعات التي تعيش أوضاعاً غير مستقرة، تكون الجماعات البشرية التي تنشط داخلها مختلفة وغير منتظمة، وغير متجانسة، وتخلص أيضا إلى أنه متى اختلفت جماعة بشرية، عن تاريخ ودين وثقافة وهوية جماعة أو جماعات أخرى، ازدادت حدة العنف، وتعمق الشرخ المبشر بتضعضع بنية الدولة التي تجمعهم.
وعلى ضوء هذا، يؤكد الدكتور عبد الله حمودي، في (رؤية أنثروبولوجية لقضايا الثقافة والسياسة والدين والعنف) أن تمرد الإنسان وعنفه يتمفصل في عنصرين اثنين أساسيين، عنف داخلي، وعنف خارجي، أي عنف يتحدد انطلاقا من الدينامية الداخلية للجماعة، انتظامها، اختلافها، خصائصها، مكوناتها…، وعنف آخر يتحدد انطلاقا من علاقة الجماعة بجماعات أخرى.
ولعل من أشد المحطات التاريخية التي عاني فيها الإنسان العربي من العنفين اللذين فصلها عالم الإجتماع المغربي في كتاب (مصير المجتمع المغربي)، هي الثورات العربية، التي شهد فيها عنفا داخليا يتجلى في تردي الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن انتشار مجموعات مسلحة، الإرهاب، الجريمة المنظمة، احتجاجات، عمليات التخريب والقتل، إضافة إلى عنف أخر يتمثل في وسائل الإعلام وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة. وعنف خارجي، يتجلى في تدخل الدول العظمى المهيمنة التي تهدف إلى استغلال العنف بما يخدم ويضمن مصالحها الاستراتيجية، وطمعاً في اكتساب مصالح أخرى.
فعلى الرغم من الرواية الدموية المأساوية التي نقشت الذاكرة العربية، لا يزال الإنسان العربي مسكونا بالعنف، ولا يبدو أنه على استعداد للتنازل عنه ما لم تتحقق مطالبه الأساسية والضمانات التي تحفظها، في ظل استيراد ديمقراطية مشوهة و منتهية الصلاحية وفي غياب شبه تام للحكامة بشتى أبعادها، إلا من شعارات وخطابات مشبعة بالمجاز وفن الإلقاء و الإستعراض الديماغوجي،

اترك تعليق

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة adblock

المرجوا توقيف برنامج منع الإعلانات لمواصلة التصفح