“على درب المُمانعين” .. إصدار جديد يُؤرّخ لإنتفاضة 58-59 بالريف

على درب المُمانعين
ريف دييا: عبد الرشيد المساوي

في حلة أنيقة وبلغة فرنسية رصينة أصدر امحمد لشقر روايته “على درب الممانعين” التي تشكل إنتفاضة 58-59 مسرح أحداثها. وفي عمله الثاني هذا يراهن الكاتب – كما في عمله الأول “كوربيس” – على اشتغال الذاكرة واشتعالها لإنارة زوايا مظلمة من تاريخ الذات الفردية والجماعية، وذلك استجابة لنداء هذه الذاكرة الحية الذي يتخذ شكل واجب، بهدف تكسير جدار الصمت ومقاومة النسيان والانتصار على الخوف.
ويستشعر الكاتب منذ بداية تحريره لهذه الحكاية / الرواية / الشهادة جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه وهو ما يكشف عنه بقوله: “ما خشيته أكثر أثناء تحرير هذه الحكاية هو أن لا أجد الكلمات المناسبة لنقل هذه الشهادة التي تركها لي جدي. هذه الشهادة التي حاولت إعادة تشكيلها بصبر بلا حدود. أمنيتي اليوم أن أكون قد أوفيت بدفتر التحملات بشرف” (ص6).
وهكذا ينقلنا السارد عبر صفحات الكتاب إلى أحداث هذه الاتفاضة التي تركت أثرا بليغا في نفسه وجسده، كطفل لم يكن عمره يتجاوز سن التاسعة عندما انتفض الريفيون زمنذاك، دفاعا عن حريتهم وكرامتهم. وزاده في الحكي وتذكر الأحداث، شهادة جده “بوكر” – بطل الرواية – الذي عايش ما حصل عن قرب فاعلا فيها وضحية لها. وهكذا نتعرف على مسرح آخر لهذه الانتفاضة ممثلا في منطقة “آيث يطفت” والجهات المجاورة لها ( آيث حذيفة، بني بوفراح…)، حيث سيتحول الصراع بين الريفيين والمخزن إلى مواجهة مسلحة نتيجة لشراسة قمع هذا الأخير للمنتفضين، وبشاعة تدخله في حق جميع سكان المنطقة (الأطفال، النساء، الشيوخ). وهكذا تتسلسل الأحداث من معركة “خروبة” مرورا بسيطرة المنتفضين على “اسنادة”، وما أعقب ذلك من تدخل همجي للجيش الذي عمل على سحق الإنتفاضة بكل ما أوتي من قوة. والسارد وهو يركز على دور “بوكر” في الانتفاضة، ينقل إلينا حوارات المنتفضين، ويصف لنا نفسياتهم والطريقة التي تفاعلوا بها مع الأحداث. كما يسرد بعد ذلك مرحلة انكسار الانتفاضة وهروب “بوكر” إلى تطوان، ثم عملية القبض عليه بعد عودته إلى الريف، ثم المحن التي عاشها في السجن لمدة ناهزت ثلاث سنوات، وصولا إلى استقراره في طنجة حتى وفاته.
إن ما دفعني إلى الكتابة عن هذا العمل الإبداعي وتقديمه للقراء والتعريف به – وليس القيام بقراءة نقدية له لأن ذلك شأن المتخصصين في النقد الأدبي – هو قيمته المضافة التي تتجلي في نظري في المستويات الثلاثة الآتية :
أولا، تعد هذه الرواية أول عمل أدبي حقيقي ينقل إلينا عبر صور حية ما حصل في الريف نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، إذ لم يسبق لأحد أن كتب عن هذه التجربة الأليمة بكل هذا العمق والوضوح. فحسب علمي هناك عملان اشتغلا على الموضوع، الأول لسعيد العمراني بعنوان “انتفاضة 59/58 بالريف كما رواها لي أبي”، وهو شهادة مباشرة تنتفي فيها صفة الأدبية. والثاني هو رواية “انكسار الريح” لأحمد المخلوفي، التي يتحقق فيها شرط الأدبية، لكنها لا تتناول هذه الانتفاضة إلا كخلفية لأحداثها ولا تتيح معرفة ما حصل.
ثانيا، تمكن هذه الرواية من تصحيح الصورة الخاطئة التي تعتبر أن المركز الوحيد للانتفاضة هو ” آيث بوخرف” بقيادة امحمد الحاج سلام أمزيان، إذ تبين وجود مركز آخر في “آيث يطفت” بقيادة الرايس نحدوش. وهكذا إذا كان الطابع السلمي هو الغالب في الجهة الأولى، فإنه في الجهة الثانية تحولت الانتفاضة إلى مواجهة مسلحة للأسباب المذكورة آنفا.
ثالثا، وهو الأهم في نظري- وبه تتميز الكتابة الأدبية عن الكتابة التأريخية – أن هذه الرواية تتيح الفرصة لإبراز الأصوات المخالفة داخل كلا طرفي المواجهة (المنتفضون، المخزن)، للتعبير عن منظورها للأحداث. فمثلا في الصفحة 60 نشهد هذا النقاش الحاد بين “بوكر” وأخيه “عبد السلام” بحضور المنتفضين، حيث يرى هذا الأخير أنه لاجدوى من الدخول في المواجهة مع الجيش. وفي الصفحة 96 ينقلنا السارد إلى نقاش آخر بين “بوكر” الذي يرى، اعتمادا على تجربته في المقاومة مع الخطابي ومشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية، أن الواقعية تفرض إيقاف المواجهة، وبين “بوطاهر” الذي يدافع عن فكرة الذهاب بهذه المواجهة اللامتكافئة حتى نهايتها. وأيضا في الجهة الأخرى المقابلة (أي جهة الجيش)، يحكي لنا السارد هذا الجدال الحاد بين الكولونيل نيغرا Negra الذي يدعو إلى التفاوض مع قيادات المنتفضين، وبين الكولونيل أوفقير الذي يتبنى استراتيجية الحرب الشاملة التي استلهمها من مشاركته في حرب الفييتنام، حيث لا وجود فيها لمفهوم المدني، والتي تقوم على إذلال الخصم من خلال حرق المنازل واغتصاب النساء وقتل الأطفال والمسنين.
والخلاصة التي نخرج بها بعد انتهائنا من قراءة هذا المنجز الأدبي، أن الكاتب أوفى بوعده لجده وكسب رهانه. فمن خلال لعبة مرايا الذاكرة Miroirs de la mémoire (أي هذا الذهاب والإياب بين ذاكرة الطفل وذاكرة الجد)، استطاع أن يجعلنا نتعرف على مرحلة مفصلية في تاريخ ذاتنا الجماعية التي عمدتها – والتعبير للكاتب – هذه الانتفاضة بالنار. ومن شأن التعبير الفني عما حصل، أن يساهم في مصالحة الذات مع ذاتها ومصارحتها قصد التخفيف من عبء الماضي. كما أن هذا التعبير هو تكريم لكل هؤلاء الأبطال الذين بقوا في الظل – أبطال بلا مجد بتعبير كاتب آخر – لأنهم هبوا للدفاع عن الحرية والكرامة وأدوا ثمن ذلك غاليا. وبهذا العمل يكون الأستاذ لشقر قد نجح إلى حد بعيد في استرداد شريط هذا النضال، وانتصر على هذا العدو الثلاثي الأبعاد المحدق بنا: الخوف والصمت والنسيان، وذلك من خلال نحته لهذه المرحلة اعتمادا على أسلوب الحكي Récit الذي يمكن أن أجازف بالقول إن الكاتب بارع فيه

استاذ وباحث في ثقافة وتراث الريف

اترك تعليق

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة adblock

المرجوا توقيف برنامج منع الإعلانات لمواصلة التصفح