خالد الجامعي بين خيبة الأمل وإرث الشجاعة

ريف ديا// احمد علي المرس
حين يرحل القلم، وتبقى الكلمة شاهدة. خالد الجامعي صوت لا يُشترى، وإن أسكته الرحيل في زمنٍ اختلط فيه المداد بالولاء، واستُبدلت فيه الحقيقة بالتسويق الإعلامي، رحل خالد الجامعي بصمت، كما يرحل الكبار حين تُنهكهم المعارك ولا ينهزمون. لم يكن مجرد صحفي عابر في مشهد مغربي متقلّب، بل كان ـ بحق ـ صوتًا نافرًا في جوقة الارتباك، ذاكرة حية لصحافة لا تُساوَم، ووجدانًا نقيًّا لعصر كان يُكتب فيه بالرئة قبل القلم.
هو من أولئك الذين لا يُكتب عنهم في خانة “وفيات الأسبوع”، بل يُستعاد حضورهم كعلامة فارقة، كرجُلٍ امتزج في شخصه الساخرُ الباسم، بالمتمرّد الذي يُجيد زرع الأسئلة في صميم السلطة.
ولد خالد الجامعي عام 1944، في زمن مغربي مملوء بالمخاضات و توفي في 1ماي 2021 ، وكان ابنًا لأحد الموقّعين على وثيقة الاستقلال. غير أنه اختار أن يوقّع استقلاله الخاص، لا من الاستعمار، بل من كل قيود التبعية الفكرية والسياسية. انخرط في مهنة المتاعب لا باعتبارها وظيفة، بل معركة مستمرّة في دروب الحرية، فحوّل منبر “لوبينيون” إلى شرفةٍ يطل منها على المسكوت عنه، متحديًا كل خطوط الرقابة الحمراء.
لم تكن سنواته المهنية مفروشةً بالورود، بل بالشوك والمساءلة والاعتقال. ستة أشهر من التعذيب في دهاليز السبعينيات، لم تزد الرجل إلا إصرارًا على أن يكون “ذلك الذي لا يصمت”. كتب حين كان الصمت مُريحًا، وسخر حين كانت السخرية خيانة، وواجه رموز السلطة بلا أقنعة، حتى حين كانت الكلفة باهظة.
في عموده بجريدة لوجورنال، أطلق العنان لقلمه كي يفتّت صلابة الخوف، في زمنٍ كان فيه مجرد سؤال يُعدّ مغامرة. ظلّ وفيًّا لتلك النبرة الساخرة التي لا تخدش الاحترام، لكنه لم يكن يومًا متهاونًا مع الظلم. انتقد إدريس البصري علنًا، ولم يتردد في كشف هشاشة “السلطة المتجبرة”، وكان يتلقى التهديدات بابتسامة عارفٍ بأن المعركة ليست متكافئة، لكنها مشروعة.
خالد الجامعي لم يكن نبيًا ولا قدّيسًا، بل إنسانًا بخطايا ومواقف، لكنه أبدًا لم يُغلق باب النقد على نفسه، ولم يخن مرآته. كان يعارضك بشراسة، ثم يربّت على كتفك بلطف، لكنه لا يمدّ يده للمال المسموم أو التنازلات المُهينة.
في مشهده الأخير، لم يكن شيخًا مُنكسرًا، بل ظلّ كما عرفناه: عنيدًا في تفاؤله، مرهفًا في خيبته. كتب وهو يقول: “عيت، وخاب أملي، ولكن مأمن بمستقبل أفضل”. وكأنّه أراد أن يورّثنا شعلته دون أن يُلقي باللوم على أحد.
رحل الجامعي، ولم يترك خلفه شركة إعلامية أو قناة تلفزيونية، بل ترك ما هو أعمق: سيرة رجل قاوم الابتذال، وحافظ على رأسه مرفوعًا حتى النهاية.
وإن كنا لا نُحصي أسماء الصحفيين الذين مرّوا، فإننا نحفظ اسمه كما يُحفظ النشيد القديم في ذاكرة الجيل؛ ذاك الجيل الذي آمن، ولو للحظة، أن الكلمة الحرة قادرة على أن تهزّ العروش.
فليكن رحيل خالد الجامعي وقفةَ تأمل، لا بكاءً على الأطلال. ولتكن ذكراه دعوةً للعودة إلى المعنى، حيث الصحفي لا يُشترى، وحيث القلم لا يُطوى.