كل ما أعرفه أننى لا اعرف شيئاً

12985464_10206283394710200_591567132082547226_n

ريف دييا: بقلم سفيان غنو

ينظر الإنسان من حوله ويرى الأشياء والكائنات والأحياء تتغير وتتبدل وتسلك سبلاً وطرقاً مختلفة ولا يجد نفسه قادراً على فهم كل هذا إلا بالسؤال والبحث عن إجابات. رحلة البحث هذه هي التي أثمرت كل هذه العلوم التي نعرفها اليوم والتي لا يزال الإنسان يسأل الأسئلة فيها ويبحث عن إجابات. سؤاله عن الكائنات الحية أنشأ علوم الحياة، وسؤاله عن الأجسام وحركتها أنشأ الفيزياء، وسؤاله عن المركبات أنشأ الكيمياء وسؤاله عن الكواكب والنجوم أنشأعلوم الفضاء.. وهكذا فـ “التفلسف” في أبسط معانيه، وبعيداً عن كل النظريات والاجتهادات اللاحقة، هو مجرد عملية سؤال يطرحها إنسان حائر يريد أن يفهم. وبهذا المعنى البسيط نغدو كلنا فلاسفة، فمن البديهي أننا لا نعرف كل شيء لذلك فإننا نسأل (نتفلسف) في محاولة منا لنفهم. ولا أدري هل في هذا ما يدعو للاستخفاف من كلمة فلسفة؟

تبدو هذه من المفارقات مضحكة، فالإنسان الذي يستخف بالفلسفة إنما يستخف بأبسط نشاط يقوم به هو على البديهة، وهو السؤال والبحث. ولو ادعى أنه لا يسأل ولا يستقصي فهو كاذب لا محالة لأنه مدفوع إلى المعرفة دفعاً فهو من دونها هالكٌ لا محالة. ولكن لا يُلام هؤلاء بالكامل فالفلسفة التي دخلت مجال العلم المنظم وقُسمت كما تُقسم العلوم إلى مراحل وفروع ومصطلحات وتعقيدات كثيرة فقدت الكثير من تلك البساطة الأولى التي نجدها عند ذلك اليوناني الفضولي ذو الثياب الرثة والهيئة المزرية (أتخيله يعبث بشعره الأشعث وهو يفكر!) الذي كان يجوب أثينا طارحاً الأسئلة هنا وهناك، حاملاً معه شعاره: “فكل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئاً” وقولته المأثورة “دع الذي يريد أن يحرك العالم أن يحرك نفسه أولاً”. سقراط هذا الذي أتحدث عنه كان فيلسوفاً بحق، ولعل أكبر الأدلة على رجحان عقله أنه لم يترك أثراً مكتوباً! وأننا سمعنا عنه من مصادر متفرقة أهمها تلميذه أفلاطون. لا أدري إن كان ما أقوله ممكناً، ولكن تلك الأطنان من الكتب التي تحتوي نظريات وآراء فلسفية لمختلف الفلاسفة في مختلف العصور شوهت جوهر الفلسفة وطرحت جانباً “الإنسان” باعتباره أهم عنصر في عملية التفلسف كلها. ينقل الفيلسوف فكرته فتفقد جزءاً كبيراً من أصالتها عندما تتحول إلى مادة مكتوبة منسقة على نحوٍ ما في الكتاب، ويأتي القارئ والناقد أو الفيلسوف الآخر فلا يكون في مواجهة فلسفة حية مباشرة عندما يقرأ الكتاب الفلسفي، بل هو أمام صورة شبه أصلية، مقاربة من نوعٍ ما لتلك الفكرة التي كانت تدور في ذهن الكاتب الفيلسوف، فيجد صعوبة في استساغتها وفهمها وتصبح هذه الكتب مجرد أكوام من الورق. هل يعني ذلك أن نرمي هذه الكتب أو نحرقها ونتخلص منها؟ كلا.
مغزى الكلام أن جوهر التفلسف يبدأ من داخل الإنسان نفسه، فهي عملية يقوم بها الإنسان مع ذاته أولاً، ينطلق منها، يمارس معها عملية طرح الأسئلة والبحث عن إجابات، وقد تقوده رحلة البحث إلى تلك الأسفار والكتب ولعله من خلالها يستشف بعض ما يعينه على المضي قدماً. قُصارى القول أن التفلسف فعل عقلي، ذهني وفكري وليس علماً جافاً نتلقاه من الكتب. لذلك فعندما نقدم كتب الفلسفة لطالبٍ في الجامعة أو لمهتم بالفلسفة فإن ما نفعله هو أننا نعطيه خلاصة التفكير بصورتها النهائية ونطلب منه بعد ذلك أن يفكر! نريه تحفة فنية أو مزهرية ونعطيه بعد ذلك الأدوات لنخبره أن هذه هي الأدوات التي صنعنا بها المزهرية! ما الجدوى إن لم نعطه الأدوات أولاً ونطلب منه أن يتمرس في استخدامها ويصنع بعدها المزهرية؟ ما الجدوى إن لم نمنح الطالب أو المتعلم أدوات التفكير والتفلسف ونطلب منه بعد ذلك أن يتمرس في استخدامها مع الوقت و يساهم في بناء صرح الفكر الإنساني؟ إذ ذاك يمكننا الحديث عن إنسان مبدع ، عندها وعندها فقط لن تكون الفلسفة هراءً بالنسبة له.

اترك تعليق

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة adblock

المرجوا توقيف برنامج منع الإعلانات لمواصلة التصفح