من المانيا : رحلة البحث عن الذات.. حوار مع السيد محمد عسيلة‎

مريم عرجون ـ دوسلدورف ـ

هي رحلة الأنبياء و الصدقين من قبل ..و هي رحلة الصادقين و الصالحين و النورانيين و ذوي العزم أين ما كانوا و مهما كانوا من بعد…
رحلة البحث عن الذات.. الرحلة التي تبدئ من الداخل.. عبر صوت أت من بعيد، ذلك الهمس الروحي الذي لا يهدئ و لا يكل و لا يمل و الذي يدعونا كل يوم إلى النهوض و السفر.

ولأننا أصبحنا اليوم.. جميعنا و بدون استثناء نعيش في عالم يبتكر و يبرع كل يوم في أساليب جديدة تسرق منا هوية ذاتنا الحقيقة في المجتمع الواحد و في العائلة الواحدة و في الأسرة الواحدة.
فكرت أنا مريم عرجون مع السيد محمد عسيلة أن نقترح عليكم فكرة موضوع “رحلة البحث عن الذات”.
محمد عسيلة هو من مواليد سنة 1963 بالرباط و الحاصل على الاٍجازة في اللغة العربية وآدابها سنة 1987 أيضا من نفس المدينة. سنة 1985 كان من ضمن البعثة التربوية الثقافية المغربية التي كانت تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قبل أن تتحول إلى مؤسسة الحسن الثاني من أجل تدريس اللغة العربية والثقافة والحضارة المغربية لأبناء الجالية المغربية بألمانيا. و هو الأن و بعد مرور 25 عاما على مزاولة العمل التربوي و الثقافي و إنخراطه في عدة جمعيات و مؤسسات أصبح من الشخصيات البارزة في المجتمع الألماني ليحصل مرتين على التوالي على الجائزة الأولى للاندماج. يعشق القراءة و و مساعدة الأخرين و يحب أحيانا كتابة الشعر و كتابة مواضيع عن الغربة و الجالية

ـ كانت هذه نبذة مختصرة عنك أستاذ عسيلة، فماذا تحب أن تضيف إليها؟

ــ أولا شكرا على الإستضافة الكريمة. قد لامست معظم الأعمال و المحطات بشكل مختصر، و مما قد أضيفه إليها هو أني كنت رئيس المجلس الإستشاري للأجانب في مدينة “إركرات”، و كنت و ما زلت محاضرا لدى المؤساسات الألمانية التربوية و الجامعية، و درّٓست في جامعة “بوخوم” مادة بيداغوجية تدريس الدين لمدة سنتين مع الدكتور و البروفسور رايش موت.

ـ أستاذي الفاضل أنت أستاذ علمه أكبر و أعمق من أن نصفه في أسطر، و قد جئت إليك عالما و مفكرا لا أكاديميا، و أنا مثقلة بأسئلة هي في نفس الوقت أسئلة الكثيرين عن موضوع رحلة البحث عن الذات. لكن بداية أريد أن أعرف من هو هذا الدليل، و كيف يحب هو أن يعرف نفسه للناس؟

ــ حقيقة، الإنسان عندما يطرح عليه هذا سؤال “من أنت؟”، فهذا سؤال وجودي، و لكي يستطيع الإنسان أن يجيب عليه، فلابد من إستحضار تربيته و محطات كبيرة و قوية في مساره و وجوده التي أثرت فيه. فجاوب سؤال “من أنا؟” لا يمكن أن يكون وحيا منزلا من السماء، بل أن يكون جوابا منبعثا من التدافع الإنساني. و في هذا التدافع تتحقق الذات و تتحقق الأجوبة و تُخلَق أسئلة أخرى و هكذا تكون مسيرة الانسان سلسلة مسترسلة الحلقات و الاصعب عندما تفقد حلقة من حلقات هذه السلسلة.. هناك تكون المعاناة – معاناة البحث عن الذات.
“من أنا؟”…أنا كانت تربتي في الطفولة تربية تقليدية في كيان أسرة تتكون من أب رحمة الله عليه فقيها يتاجر في الخضر و الفواكه و بعد ذلك في الزيتون في دكان بسيط بحي شعبي و أم رغم أميتها كانت تتميز بوعي و تفكير خارق و ست إخوة أنا سابعهم و أولهم.. أسرة تؤكد على المرجعية الدينية و مرجعية المنظومة الأسرية كباقي الاسر المغربية و مرجعية العلاقات الإنسانية بيننا و بين الجيران و الأصدقاء و الأهل و الأحباب … أبي رحمة الله عليه كان يؤكد دائما على العمل و التفاعل مع الأخر و مساعدته و تفعيل الخيرية بشكل صارخ. فأنا منذ أن وجدت و منذ أن بدأت إدراك نفسي لا أراها تتحقق إلا عندما يتحقق الأخر. و بالتالي فأنا لن أستطيع أن أخبرك بمن هو محمد عسيلة خارج هذه الصورة ذي السياق الإداري و العملي كذلك .. هناك نوع من التلاقح بين المجالات الشخصية الخاصة و المهنية . أنا أرى أنه لا يمكن أن تحدث قطيعة في هذه البيوغرافيا عندما تؤمن بالقضية، تؤمن بالإنسان، تؤمن بتحقيق الذات داخل سياق اجتماعي نفعي تشاركي . لأن تقليصنا إلى ناس عاملين يتقاضون أجرا، أراه تقليص قدحي و سلبي جدا، فالذي يقلص نفسه كونه يشتغل في سياق عملي بأجر مادي، أراه في تصوري المتواضع أنه لم يحقق بعد نفسه كإنسان. الإنسان الذي جاء خليفة لله فوق هذه الأرض يحمل رسالة، و هذه الرسالة تتجاوز هذا المعطى و هذه الحدود الإدارية المرتبطة بالمجالات العملية و المهنية .. عليك ان تنطلق الى خدمة الإنسان و خدمة الأخر و التواصل معه و في تحقيق الخير الكوني و الرحمة . هناك مثلا ما يسمى بالمثلث الذي يحدد “الخصاص الإنساني” المبني على تحقيق الرغبات و الحاجيات البيولوجية من نوم و أكل و شرب و نوم .. و هو في علاقته بتحقيق هذا الوجود يرتبط بوعي او بدون وعي بمنظومة الخوف: الخوف من المستقبل و الخوف من عدم تحقيق الذات الثقافية، الذات العارفة.. الذات المسؤولة و الواعية… الخوف من الذوبان، من الغثيان، من الاستيلاب، من الفشل، من الغياب و أثناء الحضور.. و المشكل هو أنه في مسيرة هذا التدافع قد يصاب العقل و تصاب النفس بالغيبوبة. الغيبوبة التي قد تكون سريرية أحيانا خطيرة جدا، و كما قال الإمام الغزالي في تعريف الإنسان : ” الإنسان يكون حيا حيا أو حيا ميتا “، و الإنسان الحي الحي هو الذي يعيش حياته و يخدم الأخر و يخدم نفسه في نفس الأن، أما الحي الميت هو ذلك الانسان الذي يبقى سجين تلبية حاجياته من أكل و شرب ونوم فقط،، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بما يقتصر على تلبية الحاجيات البيولوجية أو الحيوانية إذا صح التعبير. و بالتالي فإن الإنسان الحي الحي عندما يموت يكون ميتا حيا لأنه يذكر بأعماله التي قدمها و أسداها للبشرية و الإنسانية، و الإنسان الذي كان حيا ميتا عندما يموت يصبح ميتا ميتا قد لا يذكره الإنسان إلا إذا كان سلبيا أو عابر سبيل. لذلك فتعريفي لمحمد عسيلة و بكل تواضع لا يمكن أن ينحصر في كوني معلما أو مربيا أو أبا لأسرة، بل هو في هذا التعدد الذي أعيش فيه نزهة نفسية و متعة روحية في خدمة الاخر و في عبادة الرحمان من خلال هذه العلاقات المتعدية و المتعددة .. قد لا تصيبني بتلك الغيبوبة السريرية لا قدر الله.

ـ لكل إنسان في هذه الحياة حكمة أو مبدأ تتأسس عليه كل حياته؟ أنت ما هي حكمتك التي لا تفارقك أبدا؟

أو لا لنعرف ما هي الحكمة؟ هي خريطة طريق موجهة لا ترتبط بالمكان أو الزمان، و يمكنها أن تكون كونية. و الحكمة التي أرتبط بها و بما أنه لا يمكن أن أخرج عن السياق التربوي الذي كنت فيه و عن العلاقة بالله و الإنسان و المحيط. فحكمتي لا يمكنها أن تكون في جملة بل في تحقيق الإنسانية الإنسان، و حكمتي التي أنا مدين لها، تلك التي استقيتها من أبي رحمة الله عليه و هو أن أكون “خدوما خادما للناس”. كان يلح أشد الإلحاح أن يبقى باب بيتنا و قلوبنا مفتوحة لكل الناس. مبدئي ان أعيش حرا في الفكر و أسعد الآخرين .. لان السعادة التي تعطيها للاخر تصبح متحققة مرتين..و هذا يعطيك الإحساس بالرقي و بالجمال ..
(في هذه الأثناء احتبس صوت ضيفي و دمعت عينيه متذكرا لوالده، ذلك الرجل الذي عاش رحيما خدوما للناس فمات حيا. رحمة الله عليه و من خلف لم يمت.)


ـ ما هو السؤال الذي لم تجد له جوابا إلى الأن؟

ـ الحقيقة هو سؤال مركب و هو محير نسبيا، في إطار التدافع مع الإنسان و مع عدد كبير من الناس. أرى أن هذا الإنسان قد تبرمج على الخوف و على العداء و على عدم خلق متنفس في علاقاته مع الأخر. الإنسان يعيش الأن فوضى عارمة تدخل فيها الغث و السمين و الصالح و الطالح، و أصبح منطق العزل و الفرز مغيبا نسبيا، و أصبح الباطل له وجود قد عمق جذوره عميقا في أرضية بعيدة عن الخير و الحب و المحبة.
و الميل إما للخير أو للشر هو أمر منبعث من النفس “و نفس و ما سواها، فألهمها فجورها و تقواها”. هذه النفس الأمارة بالسوء لكن ألهمها كذلك التقوى ، التي عززها الله في وجوده “لماذا تحن هذه النفس و هذا الإنسان إلى عدم الخيرية؟”. هذا السؤال الذي هو مرتبط بالإكراهات فلا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فنجد أن هناك العديد من الناس عمد إلى تغييب هذه الخيرية و هذه النفعية الإنسانية التي في الحقيقة هي فطرة الإنسان التي جبل عليها و جبلت عليها هذه النفس، و كما ورد في حديث البي ص.ع. “فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، بمعنى أن فطرة الإنسان تحن دائما إلى الإسلام و الإسلام هنا بمعنى هذه الحكمة الكونية. فالسؤال يبقى في حقيقة الامر محيرا و لكي لا نتشعب في الموضوع فهو “لماذا أصبح تغييب الحق و تحضير الباطل بشكل قوي، و أصبح تدافعا أنانيا غييبت فيه المصلحة الإنسانية و غيب فيه الإنسان في تجلياته كحامل للرسالة؟. و لكي نجيب على هذا السؤال لابد من التفكير و البحث بصوت مرتفع: كيف يمكن لنا أن نفعل هذه الإنسانية؟، لذلك لابد لنا من ثقافة جديدة أصلية أصيلة تعود بنا إلى الأصل الأساسي ألا و هو التربية من خلال العلاقات الإنسانية التي أعتبرها هي المدرسة الأولى للإنسان.
ـ عندما أثقلت التساؤلات كاهلة إبن عربي خطر في باله الولي المربي القطب الغوث فذهب إليه ليجد عنده دهاليز من المعارف، و عندما أثقل طلب العلم المنصور إبن أبي عامر ذهب إلى المأرز العلم أنذاك في قرطبة، و عندما ساد الظلم في مكة قيل لهم إذهبوا إلى الحبشة. اليوم و نحن نتحدث عن رحلة البحث عن الذات

-إلى أين يمكننا أن تذهب في نظرك؟ فمن سبق ذكرهم كانوا قد وجدو وجهة معلومة فكيف يمكننا نحن اليوم أن نعرف هذه الوجهة وسط كل هذا الظلام؟

ـ هذا السؤال مركب جدا، لأن فيه نوع من التنازل و هو إيجاد نوع من التوافق، فإذا قارنا المراحل الأولى لهؤلاء العلماء و الفقهاء و الصوفيين، كانوا أ ناسا لم تأخذ منهم الدنيا المأخذ الذي أخذته منا. فنحن إذا قمنا بمقارنة من زاويتين، فإننا نعيش الأن زاوية السلحفاة و زاوية الطائر. فنجد أن الإنسان قد أصبح اليوم ضحية الإكراهات اليومية. و نرى في ثنايا السؤال الذي طرحتينه أشرت إلى محبة العلم. فأولا هناك محبة و هي في نظري عشق، و العشق هو التوحد، توحد السلبي بالإيجابي لتنقشع الظلمات و يفعل الضوء. كان مركز البحوث العربية عل مستوى المطلح يفكر في ترجمة “إشعل الضوء” فوقف على عَشِّقِ الضوء، و هو ذلك التلاقي بين السلبي و الإيجابي لتحدث الإنطلاقة و الإنفراج و طرد الظلام.
فأولا المحبة، و نحن اليوم للأسف تنقصنا تلك المحبة و الآي أعتبرها هي المحرك و بجانبها عشق العلم. علاقة تزاوج و زواج: المحبة و العشق.. فالعلم هو سؤال أو أسئلة و كما نعرف فإن الإنسان حدود كونه و عالمه يقف عند حود أسئلته. فهناك نوع من الترابط بين طرح السؤال الذي طرحته في عدة مقامات لاستنباط ماهية و مسببات الحركة و الكون و الموت و ما بعدها و مسؤوليتنا في هذه الديار كخليفة الله و كراعين لأمانة: أمانة العقل و الدين و المال و الاسرة و الوظيفة .. وبين سؤال محرج مكتوم نوع من التحريمات و الطابوهات التي تجعل الانسان محروما من التطور .. أسئلة قمعت الإنسان و همشت قيم الانسان في محالات عدة، قيمة المرأة، قيم الفضيلة، قيم الإخلاص، قيم الوفاء. و عندما نقول عدة، فمثلا الأمثلة المتداولة مثل “جعل الله الغفلة بين المشتري و البائع” أو “قل دائما أنك لا تعرف أي شي”. فهذه نظرة قدحية للتعامل تضعف و تغيب المصالح المرسلة و تقمع فذرية الانسان في فعل الخير و تفقد لأبنائنا المقام الجمالي القيمي للمعاملات الانسانية التي يجب ان تكون مبنية على الخير و المحبة و الصدق و حفظ الأمانة. لماذا يجب أن تكون هناك الغفلة بين البائع و المشتري بدل أن توجد هناك الثقة و المحبة و العشق الإنساني حتى لا يكون مكان و فسحة لاستغلال غفلة الإنسان بحكم من الأحكام ..نرى أن الإنسان في هذه السياقات التي تحدثنا عنها يتملكه الخوف و يصاب بالدوار..

أشرت في سؤالك إلى المحبة و كذلك إلى السفر فهي رحلة. سيدنا إبراهيم ع.ص. قفز على الإكراهات عندما ترك زوجته سارة و من ثم هاجر و هو يقول لهما تركتكما للواحد القهار، فهنا أشير إلى أنه علينا خلق نوع من التوافق بين البحث و بين الإكراهات و بين الإيمان الرباني الخالص. لا يمكننا أن نعود اليوم إلى ما كان في السابق، إلى رحلة إلى بغداد و رحلة إلى المغرب و رحلة إلى الأندلس، لأن هذه الرحلة هي نوع من التخلي على التزامات يشمل فيها كل فرد لبنة قوية و كبيرة و عريضة.. هذا تحدي كبير عاشه كل المفكرون. الرحلة التي قد نتفق عليها هي رحلة و هجر الكسل و الخوف السلبي و السكونية و الركون الى المبتذل، هجر في رحلة أبدية للظلم و الكراهية و الحسد و البغض و الانانية .. رحلة لسيت بالضرورة مرتبطة بالتخلي عن المكان أو الهجرة إلى آخر بل هجرة واعدة داخل الذات أولا و مع الاخر ثانيا، رحلة الكشف و المكاشفة و رحلة المحاسبة اليومية.
قلت سيدتي الفاضلة في سؤالك “ساد الظلام” فهناك دوافع. سؤالك كان محملا بشحنة قوية تحمل مكونات ما بين المحبة و العشق، السفر و الرحلة في صيغة الماضي “ساد”، عندما يسود الظلام بصيغة الحاضر و الاستمرارية تصعب رحلة البحث عن الضوء: ضوء القلوب و الأفئدة المبصرة. سيادة الظلام حيث أعتبر الظلام حالة تقع بعدما يغيب الضوء .. الله سبحانه و تعالى تحدث عن نوعية القلوب فمنها قلوب كالحجارة أو أشد قسوة و منها النييرة و المستنيرة و منها القلوب التي تتفجر منها العيون. و هذه القلوب لابد من أن توضع في مختبر عبر إحتكاكها بالأخر، لأن في كل إنسان توجد الحكمة و العبرة “و في أنفسكم أفلا تبصرون”، “وفي أنفسكم أفلا تتفكرون”، فالله سبحانه و تعالى سأل أسئلة ليس لأنه ينتظر منا جوابا و إنما ليحثنا عن البحث “وهل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون” لكي نواجه الظلام و الظلم بأضواء العلم و المحبة و الخير و العدل و الفضيلة.

هل الباحث عن ذاته هو بالضرورة صاحب قضية؟ و هل يجب أن ينتهي به المطاف إلى أن يصبح زعيما روحيا كما حدث مع الفلاسفة و الأنبياء و الصوفيين؟ فهناك الكثيرين يتقعاسون عن البحث و العلم و التعلم، شبابا كانو أم كبارا إنطلاقا من مبدئ ما الفائدة من كل هذا، فأنا لست شخصا ذا أهمية، فترتبط الفكرة في الأذهان بالقيادة ، و بالتالي يعيشون حياتهم متماشين مع التيار العام.

ـ إذا ركن الإنسان إلى الأسئلة و استكان، فإن الإنسان يحن دائما لنوع من الكسل، و النفس راغبة إذا رغبتها و إذا ترد إل قليل تقنع. النفس الإنسانية هي نفس طموحة، لكنها كذلك تتربى على ما عاشه و مايريد أن يعيشه هذا الإنسان. فإذا ربيت نفسك على هذا التصاعد و الصعود (التربية و التزكية) و على البحث و الإكتشاف و ليس بالضرورة البحث عن شيخ أو قبلة، فالقبلة أولا في نفسك و في محيطك. مثلا عملية الصلاة و قيام الليل هي عملية تعبدية تشعر من خلالها أنك لا شيء أمام هذا الكوسموس الماكروسكوبي الكبير و أنك نقطة في يم و في محيط كبير، لكن أنك لم تخلق سدى و أنه لك دور، علما بأنك جزء ضئيل و ضعيف جدا في هذا الكون. بالتالي هذه الأسئلة و هذا البحث يجب أن يقف الإنسان على ماهيته و لا تتفرق به السبل إلى مسارات عدة مرتبطة بالخوف و بالدونية و بأنه لا يملك شيء “الإنسان إمكانية و طاقة قوية”. اذن الزعيم الروحي الاول هو كلام الله سبحانه و تعالى و حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم و من تبعه بإحسان و بحكمة و بنور. اذا تعمقنا في كلام الله و تذوقنا حلاوته و فهمنا المقاصد و الأهداف اعتبر ذلك هو المرجع و الزعيم الروحي الاول و الاخير.. القراءة و المطالعة و العلم زعيم اخر .. مصاحبة الاخيار زعيم آخر .. العلم و فعل الخير و تجاوز المحن و العقبات و مساعدة الناس .. فرحلة البحث عن الشيخ و الاستكان إليه قد يقلص من طاقاتي كإنسان مأمور بالبحث عن الحقيقة بنفسي .. كإنسان جعل الله بين يدي كتابه المبين ..

ـ هنا في ألمانيا و في مجتمعها العلماني، نجده أكثر مجتمع يتحدث عن الدين، و نراهم كيف هم يسافرون إلى الصين و الهند و إفريقيا و الدول العربية و الإسلامية فمنهم من يعتنق الإسلام و منهم من يعتنق البوذية و منهم من يجد أفكار أخرى غريبة يجعلها مذهبه. فهل الباحث عن ذاته هنا في أوروبا أيا كان مسقطه هو في الأساس باحث عن الله و إن اختلف تعريف الإله من شخص لأخر؟ و ماذا تقول للكثير من شباب العرب الذي جعل تحقيق ذاته مرهونا فقط بالتحقيق المادي و بعد كليا عن الفكر و العلم.

ـ هذا سؤال مهم جدا و هو مرتبط بالإنسان ككل. أعود لمرجعية القرأن الكريم، فسيدنا إبراهيم مثلا عندما كان يتحدث مع نفسه كان هناك نوع من مونولوج لا نعرفه مع من، ” فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ”. هذا سؤال مهم جدا و هذه محطة رئيسية بين لنا فيها القرأن بأن الإنسان دائما يبحث عن الله و يبحث عن الوجود و عن تحقيق هذه الذات في علاقته بالله و بالاخر و بالمحيط.. في الفقه مثلا من لم يشكر الناس لا يشكر الله، و أين ما وجدت المصلحة وجد الله أو الدين. محطة البحث عن الدين لمن يعيش في ألملنيا، هذا الإنسان العابد للماديات و كذلك الشباب الذين يبحثون عن تحقيق ذواتهم فقط من خلال المادة و الشغل أين ما كانوا، أرى أن هذا المبدأ هو تقليص لوجودهم و لا يحقق ذلك التحقيق الكبير السامي للسعادة ..يجب البحث عن تحقيق الذات الإنسانية من خلال التجليات و التمظهرات الثقافية و الروحية كبائع المسك إن لم تشتر من عنده قد تأخذ قبسا من ذلك العطر.هناك دراسة عن الدين و دوره الحضاري تقول: أن كل إنسان عاجز عن صبغ العوالم الخفية المرتبطة بالميتافيزيقا التي تتعدى فهمه و واقعه، فيأتي الدين ليكمل ذلك العبث النفسي من أجل تنظيم هذه الأفكار.
إذن الدين له دور إنتبرتولوجي حضاري، ليس الدين المتقلص في العبادات اليومية المتقلصة في صلاة و صوم و زكاة. بل الدين المحقق للدفعة الروحية و الفكرية التي تجعل الإنسان يحظى بنوع من التوازن. و الإشكاليات التي نعيشها اليوم من خلال التطرف الديني أو الثقافي و الإجتماعي، هي بسبب التغييب للدين الذي يتجلى في صلة الإنسان بالله الخالق، و النفس مبرمجة على البحث.
مثلا هناك قصة حي ابن يقظيان الذي تربى في الغابة مع غزالة و عندما توفييت أراد أن يحييها فهو لم يكن يدرك أنه هناك موت. ففتح صدرها ليبحث فيها عن الحياة، فتفاجأ بهذا النسق و النظام الدقيق و الكبير و هذا التداخل العظيم في تركيبة الكائن الحي. ففكر أنه لا يمكن أن يكون هذا النظام المعقد موجود بدون غاية و باعتباطية ..إلا و له خالق. فمن خلال الموت و جد الحياة، و من خلال العشق و المحبة بينه و بين الغزالة أمه بحث عن الحقيقة فوجد الله و هو بعيد عن التأثيرات و المشيخة و مصادر المعرفة الخارجية..

الملحدون مثلا، تحقق إلحادهم من خلال أن هناك وجود لله و نكرانهم له، لكن للأسف رحلتهم توقفت بهم في منتصف الطريق و نحن لا ندعي هنا أننا نريد أن نسوق للدين الإسلامي كتجار دين .. لكن لنا مسؤولية التواصل مع الانسان بغض النظر عن توجهاته و عباداته و مصدر و منابع ثقافته و تشكيلته الفيزيولوجية .. لكننا نحاول أن نبحث في هذه الإشكالية المطروحة و التي نجد فيها الألمان الغير المتدينين يبحثون عن هذه الوجهة و القبلة الدينية و الروحية في البوذية و في جبال أفغانستان و مناطق بعيدة في إطار رحلة البحث هذه. لكن البحث عن الذات أرضية أساسية لرحلة الاستكشاف هذه كي لا نصاب بالتشاؤم و اليأس.. نحن نحيل كل أمورنا و أمور الدنيا و الآخرة إلى الواحد القهار .. ففي هذا راحة عميقة .. لكن هذه الإحالة يجب ان تكون بعيدة عن التواكل بل مبنية على التوكل على الله و مبنية على الرغبة في البحث و تحمل المسؤولية.. و هذا كله مرتبط بنوعية مرجعيتنا و ثقافتنا و علمنا و تفاعلنا و تجاربنا الشخصية و الإجتماعية . فالدين هو الذي يعطيك ذلك المقاس و تلك الشحنة العاطفية التي تجعل الإنسان يبتعد عن ذلك الإنفصام النفسي و بالذات هنا في أوروبا و ألمانيا، فإذا لم تحصل تلك العلاقة و ذلك التفاعل مع الدين و المكونات الروحية، فإن الإنسان لن يقدر و لن يتمكن من إتمام مشواره في تحقيق ذاته الإنسانية.

ـ الذي سوف يقرأ هذا الحوار الأن سيكون بالدرجة الأولى هو مواطن عربي، قد يخطر في باله و أنت تتحدث أنك إنسان تعيش في دولة متحضرة و لديك حرية في الفكر و التنقل، بينما نحن مكبلون بالعادات و التقاليد و ممنوعين من التفكير بالدرجة الأولى، فكيف السبيل إلى الإنطلاق وسط الحصار؟

ـ نحن لا يمكننا أن نعمم هذا الوصف على جل أوطاننا العربية، أقولها كمغربي و أعي إنتمائي إلى المغرب و أفتخر به و أفتخر بتاريخه و حضارته و تنوعه اللغوي و الإثني و الثقافي. فنحن كطلبة كنا نعيش هذا التحرر لكن الذي يتماشى مع السياق، لأنك إذا كنت تريد نسف منظومة تقليدية و ثقافية ، فمن البديهي أن ينقطع التواصل عند هذا النسق و لو نسف عن طريق الرفض .. فليس كل التقاليد عيب او تشكل عائقا بل هي رافعة أساسية لنمو للإنسان لان في التقاليد المرجعية و الجذور ..

الإنسان يحتاج إلى ما يسمى بالتغذية الراجعة و هي نوع من الإعتراف. نحن للأسف في منظومتنا الثقافية لا نعطي إهتماما كبيرا للشكر و للإعتراف. الإعتراف تحتاجه المرأة من زوجها، يحتاجه الطفل من والديه و التلميذ من معلمه و المعلم من مديره، و الإنسان من محيطه. لأنه عندما يغيب الشكر و الاعتراف يعيش الإنسان الإنتكاسة و الخوف و الضياع على مستوى الفكر و التوجه و علاقاته بالمحيط .. فالإنسان بذلك هو في حاجة دائمة إلى التوجيه و الربت على الكتف. لا نريد منكم جزاءا و لا شكورا لكن نريد منكم هذا الإعتراف، و هذا هو الشيء الذي يفتقده الشباب في دولنا العربية.. يفتقدونه بشكل صارخ و علينا ان نعيد النظر في منظومتنا التربوية من خلال ثقافة الاعتراف و الاحتضان و الدفء الإنساني. و نحن في المغرب و كمن هو من جيل الستينات، كنا نخلق هذه السياقات في مرحلة الطلبة و الدراسة الجامعية. فالإنسان لابد أن يكون كذلك خارج سياق الإستهلاك المجاني و أن يكون فاعلا مساعدا له رؤية و تصور و برنامج حياة و لو على المدى القصير و المتوسط. و كما قال جون إف كندي : علينا أن نسأل أنفسنا ليس ما قدمه لنا هذا الوطن و إنما ما قدمناه نحن للوطن. للأسف في تقليدينا السلبي تربينا على الإستكانة و الخضوع و أن الطفل لا وجود له مع الكبار. فيحدث التغييب منذ البداية لهذا الطفل.. و بالتالي هو تغييب لامكانيات و سياقات تشاركية قد بعيشها الطفل .. هذا الطفل الذي يعيش في فضاءات أكبر منه و لا يعيش في فضاءاته على مقياسه .. فإما هو داخل الاكبر أو خارج كل السياقات .. مطرود دائما.. و هذا يولد انتكاسة غير واعية ما تلبث أن تظهر معالمها السلبية عندما يصبح ذلك الطفل شابا و رجلا يافعا .. و عندما تصبح تلك الطفلة شابة و أما مسؤولة عن تربية أجيال .. فلا نخلق بالتغييب و الطرد الراحة بذلك فضاءات للحوار بل نخلق الانتكاسة و الفوضى و البعد.

نريد ان نقوم بمقارنة متواضعة تتعلق بالتربية و بنشر الوعي و التثقيف .. فالإغتصاب مثلا، فرغم التفتح الموجود في أورربا، و التفتح هنا ليس بمعنى التفسخ و الإبتعاد عن الأخلاق، بل الحرية الشخصية اللا محدودة نجد أن درجة الإغتصاب ضئيلة جدا إذا قارناها بأوطانانا العربية الاسلامية. لأن الطفل الغربي واعي بالبعد و مدرك متى يتحقق هذا البعد مع الأخر و إن كان الأب و الأم . متى يمكن أن أقبل الأخر بوضع يديه على رأسي أو على ذاتي التي هي ملك لي و أن أقول له لا بصوت قوي. هذه منظومة تربوية تحت بند “أنا أنا”. هذه الأنا أنا كملكية مسجلة، لابد أن نفعلها في تربيتنا. فبعد أن تم تخليق هذا المنظور و جعله خارج هذه المحرمات تم تحصين هذا الإنسان و داخل هذا الطفل بنفسه و هذا مثال من الأمثلة التي هي في المجالات التربوية تعكس الاعتناء بهوية تحقيق الذات و تحقيق الإعتراف بالأخر و معرفة البعد و الأبعاد على جميع المستويات اتجاه الاخر كيفما كان، حتى يتمكن هذا الإنسان من هذه الإنطلاقة التي نحس نحن بها هنا في ألمانيا بلد القانون و الحق و الإعتراف بالأخر و التدافع. فلا ننسى أن هذا البلد ثقافته ثقافة عصية و هي مركبة و معقدة، فإن لم يكن لك مكونات و أدوات التحليل و النقذ الذاتي البناء، فلا يمكن لك أن تتموقع تموقعا إجتماعيا و روحانيا. فأنت موجه كذلك دائما لمحط الأسئلة ما بين الرفض و الإقصاءـ فإذا لم تكن متوفرا على قناعات و مبادئ فلن تستطيع الصمود أمام ذات الأخر و رفضه الخفي أحيانا. لكن ثقتنا في منظومتنا الفكرية المبنية على الاحترام و حقوق الانسان و العدالة و المساهمة في تحقيق السلم و الانسجام الاجتماعي كفيلة بخلق نوع من الارتياح لاننا و بكل بساطة مسؤولون و مكلفون بالخلافة و تعمير الارض بالمحبة و الاخلاص و عشق الاخر..

اترك تعليق

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة adblock

المرجوا توقيف برنامج منع الإعلانات لمواصلة التصفح